ما علاقة العشق بذوقيَ الفني ؟


عندما كنتُ  بعمر الاكتشافات الصّغيرةِ البريئة ،والبحثِ عن كمائن الرّوح ، والتّغيّرات التي تطرأ عليّ كفتاةٍ مثلَ بقيّةِ الفتيات ، انجذبتُ لفكرةِ الاستماع للأغاني القديمة كي أجرّبَ شعورَ العُشّاق ، في زمن السّيطرة المرئيّة لأفكار المجتمع المتمثّلة بالمسلسلات التي حاكت شبه واقع ، كانَ أبطالُ المسلسلات _ العشّاق منهم _ يستمعون لمطربين لم أكن أعرفهم في سنّي ، منهم عبد الحليم حافظ ،أم كلثوم ،نجاة الصّغيرة ،سيّد درويش ،عبد الوهاب وغيرهم من عمالقة الزّمن الجميل فكنتُ أتتبّع ملامح البطل و البطلة وهم يستمعون لهذه الأغنيات وصوتُ الأمّ يصدح : (شكلك عشقانة لحتّى عم تتسمّعي ع هيك أغاني )، حينها قرّرت التّعرّف على السّرّ الكامن وراء ربطِ العشق بهؤلاء ، والبحثِ في معجمعي العاطفيّ الذي لم يكن يتعدّى عناق طفلٍ ،الشّدو مع عصفور، أو إطعامَ هرّة عن معنى كلمة (عشق) .

بحثتُ بينَ أشياءِ أبي فوجدتُ أشرطة تسجيل من تلكَ القديمة الشريطيّة التي كُنّا نقومُ بكرّها أنا وأولادُ الحارة واللّعبِ بها دونَ مبالاة لما تحمله من مضمون أو ذكريات، وكنتُ أستغربُ ثورة أهالينا وكأننا دمّرنا العالم بذلك ، إلى أن قمتُ بتشغيل الشّريط كانَ صوت عبد الحليم حافظ و الكلمات التي تكبُرُ قدرتي على إدراكها إلّا أنّ صوته الملائكي غزا روحي تماماً همتُ ،وصرتُ أطيرُ في أنحاء الغرفة وصوتي يجوب المكان ، لحين قطع صوت أمّي نشوتي بهذه اللّحظة الاكتشافيّة اللّذيذة الوقع على روحي : (شو عشقانة طفّي هالمسجلة) ، تماماً كما قالت أمّ البطلة لها .

من يومها أصابني رُهاب الاستماع لعمالقة الفنّ خشية الوقوع بتهمة العشق التي لم أفهمها  لحينِ نضجت ، وكأنَّ الحُبَّ نُدبةٌ تشوّهُ ملامحَ المرءِ و يجبُ إخفاؤها عنهم .

هؤلاء العمالقة جزءٌ من ثقافة القرن الماضي التي تشبّع بها أهلنا ، كان العاشق في ذاكَ الزّمنِ الجميل ، زمنِ الرّسائلِ الورقيّة والبريد  يلجأ للأغاني العاطفيّة فيهديها للحبيب ، إلّا من تبعَ الفنّ لأجل الفن دون ربطه بحالته العاطفيّة ، وربّما لأنّه ذوّاقة .

أميلُ لأولئكَ القدامى إلى ذاك الزّمن الجميل حيثُ كان للكلمة معنىً وللصّوت صدى الرّوح ، عندما كبرتُ لم أعد آبهُ لهذهِ التّهمِ المتوارثة كما أيّ عادةٍ اجتماعيّة أخرى .

ليس بالضّرورة أن يرتبطَ ذوقيَ الفني بوجودِ أحدهم في داخلي ، بل لأنّي أعشق الجمال والفن ، أعشق الحياة التي تتدّفقُ من حناجرهم حينَ يشدون بأصواتهم الجميلة مع الموسيقى ، أحبُّ الكلمات المُترفة بالمعاني والصّدق .

لا علاقة للعشقِ بذوقيَ الفني فقد ” أحبّ الشّيء لأنّه علّة نفسه ”




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق